
بقلم ابراهيم الناية.
يطرح هذا الموضوع تساؤلات عديدة ونقاشات حادة إما عن علم أو عن جهل وهذه النقاشات لم تكن وليدة الساعة بل إن علاقة الدين بالفلسفة كانت محل تجاذبات فكرية منذ العهد اليوناني ،فموضوع وجود الآلهة من عدمه عند اليونان خاض فيه الفلاسفة جوالات متعددة تجسدت بين الإنكار والإقرار ،وفي العالم الإسلامي كان موضوع التوفيق (أو التلفيق )بين الدين والفلسفة أي (الفلسفة اليونانية ) هو الحل المقترح من قبل الفلاسفة لأن الظروف المجتمعية اقتضت من الفلاسفة مراعاتها لكي لا ينعتوا بما لا يريدون، ولكن ذلك لم ينفعهم في شيء لأن المفكرين المسلمين أوضحوا تلك التصورات التي طرحها متفلسفة الإسلام داخل بنية المجتمع الإسلامي، وما كتاب “تهافت الفلاسفة” للغزالي وغيره عنا ببعيد ولكن السجال العنيف إنما حصل في الفكر الغربي الذي عاش تناقضا صريحا بين الفلسفة (كفكر بشري) وبين الكنيسة، فممارسات الكنيسة الشنيعة وما قامت به من مخالفات مذهلة تجسدت في قتل العلماء وتعذيبهم ووقفت حاجزا منيعا، أمام الأبحاث والاكتشافات العلمية وقاومت كل الإبداعات الإنسانية ،ومن ثم شكلت تلك الممارسات نفورا من الديانة المسيحية (الكنيسة) .ورأى الأوروبيون أن نهضتهم وتحضرهم يتجلى أولا في إحداث القطيعة مع المسيحية (الكنيسة) لأنها مثلت رمزا للتخلف ودعامة إديولوجية للإقطاع، وهذا هو السبب المباشر الذي جعل الأوروبيين يتمردون على الكنيسة ومن ثم حصلت التقابل عندهم بين الخالق والمخلوق، والمطلق والنسبي. ولذلك إن العنوان: الفلسفة والدين عند الأوروبيين يطرح تنافرا جليا ولكن أي فلسفة؟ وأي دين يرفض العقل؟.
وجاءت فلسفة الأنوار بعد ذلك لتعلي من شأن العقل وتجعله يسيطر على كل مراكز التوجيه ويكون أداة للتشريع وإنتاجا للمعرفة في آن واحد. وإبعاد كل ما له صلة بالدين (الكنيسة )من مجال الحياة، ولكن الذي يدعو إلى الغرابة أن يقوم بعض الباحثين في مجتمعاتنا بإسقاط واقع تاريخ المجتمعات الأوروبية على واقع المجتمعات الإسلامية وكأن المجتمعات الإسلامية لا خصوصية لها تميزها عن غيرها.
وهكذا يصبح هؤلاء الباحثون يرددون مفاهيم ومصطلحات نشأت في واقع مختلف له أسبابه وظروفه الموضوعية، ويوظفون هذه المفاهيم في قراءة واقع آخر يختلف عنه جملة وتفصيلا .فهل هذا هو المنطق العلمي الرزين؟ وعلى هذا الأساس أصبح كثير من الناس يتحدثون عن الفلسفة بنظرة سوداوية لما صدر عن بعض الفلاسفة من أقاويل لا تليق بحقيقة الإيمان ولا تنسجم مع روح الموضوعية التي يقتضيها المقال. ولما يصرحه بعض من دارسي الفلسفة أو المنتسبين إليها دون مراعاة الظروف الموضوعية التي يعيشون فيها وما يترتب عن ذلك من استفزاز مشاعر الناس والاستخفاف بمعتقداتهم والأمر يعود إلى غياب المنهج العلمي في التحليل والبناء لأنه كيف يمكن للإنسان أن ينتقد شيئا وهو يجهل حقيقته؟ فكثير من الناس لم يلزموا أنفسهم بقراءة الإسلام وإنما بقوا يرددون ما قاله فلاسفة الغرب عن المسيحية وكأن الإسلام هو المسيحية، فأصبح نقد الدين عند هؤلاء موضة تحولت إلى ظاهرة مرضية ومن ثم راح كل من أراد الشهرة الرخيصة يركب هذه الموجة مستغلا الإعلام المأجور.
وهناك من ينتقد الفلسفة دون أن يكون له إلمام بموضوعاتها أو أدنى معرفة بها وإنما يعود ذلك النقد لما يسمعه على ألسنة الناس من أقاويل، وهذا أمر لايستقيم فهل انتقد الإمام ابن تيمية الفلسفة اليونانية أو المنطق الأرسطي لمجرد السماع دون أن يكون له علم بهما ؟ بل سعى إلى صياغة المنطق الأصولي عندما عرف أن خصوصية البنية الفكرية الإسلامية تختلف أساسا عن البنية الفكرية اليونانية. وإجمالا لا يمكن وضع العقل والدين موضوع التقابل لأن العقل البشري هو شرط التكليف ولا يمكن للإنسان أن يكون مكلفا ولا مسئولا إلا بوجود العقل وبفقدانه يفتقد التكليف وتنتزع المسئولية
والعقل وسيلة لفهم الشرع ولكنه لا ينتج التشريع ،لأن التشريع من اختصاص الخالق لأن الذي له الحق أن يشرع للإنسان هو الخالق الذي يعرف طبيعة ما خلق ويعلم القوانين التي تتلائم مع تلك الطبيعة. ثم إن نقد الشيء لا يتم إلا بعد العلم به والذين يقومون بعمليات الإسقاط لا يضرون إلا أنفسهم لأن كل شيء غير مؤسس على الحجة والبرهان لا يمكن أن يستقيم أمره وحتى الذين يدعون الإسلام وليس لهم علم به فكيف يؤمنون بشيء وهم يجهلون حقيقته؟! ويتصدر بن رشد المدافعين عن الفلسفة اليونانية وتحديداً الفلسفة الأرسطية لأنه يفكر من داخل ثوابتها : يقول إن الذي ينتقد الفلسفة لضرر جزئي يطرأ بالعرض كمن يمنع العطشان شرب الماء البارد لأن قوماً شربوه فشرقوا به فماتوا .ومن المعلوم أن ابن رشد أخضع ثوابت الفكر الإسلامي لثوابت الفكر اليوناني وفلسفة أرسطو تحديداً .
وهنا نريد أن نتساءل :
- ماذا نعني بالفلسفة؟ وهل كل تفكير فلسفي تفكير عقلاني؟
- ماذا نعني بالدين؟ وهل الدين يتناقض مع العقل؟
- وأي فلسفة وأي منطق انتقدهما ابن الصلاح؟
- وما الأسباب التي جعلت أصحاب المنطق الأصولي ينتقدون المنطق الأرسطي والفلسفة اليونانية عموماً؟
- وأي دين يتحدث عنه العلمانيون في العالم الإسلامي؟ وأية صورة يقدمونها عن الدين المستهدف؟
إن الفلسفة تفكير بشري مرتبط بوضعيات مختلفة زمانية ومكانية ،وليست الفلسفة وحياً سماوياً وهي منظومة فكرية لكل فيلسوف على حدة وقد تؤدي به إلى الإيمان بالله أو العكس ولكن الفلسوف لابد أن يؤمن بشيء لأن عدم الإيمان بالشيء إيمان بشيء آخر. والفلسفة إلى جانب ذلك أنساق متقابلة والأمر يعود إلى طبيعة برهان كل فلسوف ومنطلقاته الفكرية ما دامت الفلسفة على حد تعبير ابن رشد هي النظر في الموجودات حسب ما تقتضيه طبيعة البرهان
ثم إن كل فيلسوف ينبغي ربطه بجذوره الفكرية والاجتماعية وبثوابت مجتمعه وبإطاره التاريخي ولا ينبغي النظر إلى أفكاره بمعزل عن واقعه الفكري والديني. فالفلسفة إذن منتوج لعقل بشري فهل كل ما ينتجه العقل الإنساني يمكن أن نطلق عليه العقلاني أو العقلانية؟
جاء التفكير العقلاني نتيجة الثورة العلمية والتحولات التي طرأت على العلم خصوصا الرياضيات والفيزياء واستطاع بعض الفلاسفة أن يستفيدوا من هذا التحول الذي جرى وأصبحت الفلسفة كما يرى “باشلار” تتحدد في علاقتها مع العلم وهكذا نقول العقلانية الديكارتية لأنها تأسست على الرياضيات ونقول العقلانية الكانطية لأن كانط بنى نظريته في المعرفة على العلم النيوتوني خصوصا في سؤاله الشهير : ماذا يمكن لي أن أعرف؟ كما يتم التصريح بالعقلانية المعاصرة لأنها استفادت من المفاهيم التي ظهرت في الفيزياء والرياضيات، ثم لا نقول العقلانية الأفلاطونية لأن أفلاطون وظف الرياضيات توظيفا متفيزيقيا ،بالإضافة إلى ذلك إن مصطلح العقلانية ليس له بعد اديولوجي ومن ثم ليس كل تفكير عقلي تفكيرا عقلانيا لأن الأمر يعود إلى المنهج والمفاهيم والتحولات .
ولكن في العالم العربي المتخلف حضرت الاديولوجيا وغاب العلم فأصبح يطلق على كل إنتاج يحدث المفاصلة مع الدين تفكيرا عقلانيا ،وهذا مجانب للصواب.
أما الدين والإسلام تحديدا فهو وحي سماوي لا يستغرقه الزمان والمكان فهو رسالة سماوية خالدة جاءت لتنظيم حياة البشر وإشاعة العدل والمساواة بين الناس، على أسس واضحة تقوم على أن الله هو الخالق والمتصرف في كل شؤون عباده والذي له القوامة والسلطان على مخلوقاته، والإيمان بالله شيء فطري في النفس البشرية خلق الإنسان مزودا به كما هو مزود بالعبادة ،فإما أن يكون عابدا لله وإما أن يكون عابدا لشيء آخر، فالإنسان فطر على الإيمان والعبادة كما جبل على الأكل والشرب ،فالإيمان والعبادة شيئان فطريان في تركيبة الكائن البشري فكل المجتمعات البشرية عبر التاريخ سادتها معتقدات مختلفة وديانات متعددة ولكن الدين الخاتم دين الإسلام جعل الإيمان بالله هو الأساس في كل شيء في حياة الإنسان ،لكن هل الإيمان بالله هو الإقرار بأنه موجود؟
إن الإيمان بالله لا يتحقق إلا بحضوره في واقع حياة الإنسان وسلوكه وأفكاره وفي كل سكناته وحركاته، فالأمر لا يقتضي أن يقول المرء بأنه مؤمن بالله لكن ما أثر ذلك الإيمان في واقع حياته؟ فالإيمان بالله يقتضي الممارسة والاتباع وليس الإقرار فقط، والإسلام منهج حياة الفرد والمجتمع ، جاء ليسود الواقع ولتنظيم حياة الناس فهو ذو طابع عملي، وعلى هذا الأساس وضع الإسلام حدا للتفكير المتافيزيقي ورفض الفقهاء وعلماء الأصول وكل علماء الطبيعة الخوض في الفكر المتافيزيقي اعتقادا منهم أن العقل البشري كما يرى الغزالي لا يمكن أن يدرك الأمور الغيبية والأمور المنجية من عذاب الآخرة ، بخلاف الفلسفة اليونانية التي ظلت مشدودة إلى التفكير المتافيزيقي .
وهذا الأمر هو الذي جعل الحضارة الإسلامية تتجه إلى الإبداع في الجانب المادي ولكن على أسس أخلاقية مما جعل الفقهاء وعلماء الأصول ينتقدون الفلاسفة وعلماء الكلام نقدا شديدا لأنهم خرجوا عن إطار التوجه العام للرؤية الإسلامية للكون والحياة والإنسان.
والغريب أن نجد بعض الأقلام تنتقد توجه الفقهاء وعلماء الأصول لكونهم رفضوا الخوض في الجانب المتافيزيقي علما أن الغرب المعاصر لم يحقق التقدم المادي إلا بإحداث القطيعة مع الفكر المتافيزيقي ولذلك كان تساؤل “كانط” في محله: لماذا نجح العقل في ميدان التجربة وفشل في ميدان المتافيزيقيا ؟.
لكن هل الفلسفة تدعو إلى الإلحاد؟.
لقد عالجت هذه المسألة في موضوع تناولته سابقا، ولكن ينبغي الإقرار أنه لا يمكن فصل آراء الفيلسوف وأفكاره عن جوهره الروحي وبيئته الأخلاقية ووسطه الاجتماعي، ولذلك هناك فلاسفة أعلنوا إلحادهم بصيغ مختلفة وآمنوا بشيء آخر.
في المجتمع اليوناني نجد “أكسينوفان” يرى أن الناس هم الذين استحدثوا الآلهة وخلعوا عليهم هيئتهم وعواطفهم ولغتهم، وقس على ذلك كل من “هوميروس” و “هزيود” ،والسفطائيين و”بروتوغراس” و”ديمقريتس” و”أبيقور” وغيرهم .
وفي العصر الحديث نجد كلا من “نيتشه” و”سارتر” و”فيورباخ “و”ماركس” في بعض أقاويله ، ” ومارتن هايدغر ” وغيرهم.
ورغم هذا التوجه إلا أن هناك فلاسفة وهم كثر سلكوا مسلكا مغايرا، ولذلك نرى “فرانسيس بيكون” يقول: ” إن قليلا من الفلسفة يقرب الإنسان من الإلحاد ،أما التعمق في الفلسفة فيرده إلى الدين” وفي عصر النهضة الأوروبية تمت الثورة على الماضي والانفصال عن ارسطو ،وظهر ما يسمى الإصلاح الديني وانبثقت الكشوف العلمية وهنا بدأ الاستقلال الفلسفي يتم عن الإيمان الديني (الكنيسة) وجاء “ديكارت” و”بيكون” وصرحا بضرورة وضع الدين (المسيحية) خارج نطاق النظر العقلي فديكارت يقول في كتابه خطاب عن المنهاج: “لا أومن بشيء ما لم يبد لي بداهة ويقينا أنه كذلك “ولكنه يقول في كتابه “مبادئ الفلسفة” “إن من واجبنا أن نتخذ لنا قاعدة معصومة أن ما أوحى به الله أوثق بكثير من كل ما عداه “.صحيح إن الفلسفة لم تنشأ إلا يوم آمن الإنسان بقدرة العقل على المعرفة، ولكن تطور التفكير الفلسفي اقتاد الفلاسفة إلى إثارة مشكلة حدود المعرفة العقلية أي: هل تستطيع الفلسفة أن تعالج المشكلات الغيبية الغامضة ومسائل ما بعد الطبيعة؟ وهكذا نجد كانط في كتابه “نقد العقل الخالص” يبين استحالة البرهنة على وجود الله، لأن هذه القضية تخرج عن دائرة التجربة الممكنة، ولذلك يرد على الفيلسوف “وُلف” ” إنه من الضروري أن نؤمن بوجود الله ولكن ليس من الضروري أن نقيم البرهان عليه “.
ولما آمن بوجود الله دون أن يدخل ذلك الإيمان في معادلة المعرفة عنده قال قولته الشهيرة “لقد ضحيت بالعلم من أجل الإيمان”.
ولكن ولكي نفهم امتعاض بعض من يدعون الحداثة والعقلانية من أقاويل تثير على الدوام كثيرا من التشنج والأمر لا يعود إلى حقيقة تلك الأقاويل وإنما لكون مقصدها غاب عنهم وقد يعود ثانية إلى تكوينهم المعرفي خاصة أنهم يتبنون نوعا واحدا من المعرفة في حين أن الواقع الذي يعيشون فيه متعدد التوجهات والقناعات والألوان المعرفية. يقول ابن الصلاح في فتاويه ” إن الفلسفة أس السفه والضلال، والمنطق مدخل إلى الفلسفة ومدخل الشر شر”
لكن ماذا يقصد ابن الصلاح؟ أي فلسفة و أي منطق يقصدهما؟ هل يقصد مطلق الفلسفة منذ نشأ الإنسان إلى نهاية العالم؟ أم يقصد نوعا معينا من التفكير الفلسفي؟ هل يقصد المنطق الرياضي المعاصر الذي قال عنه “برتراند راسل ” المنطق شباب الرياضيات ،والرياضيات شيخوقة المنطق؟ وهل يقصد الفلسفة العلمية التي جاءت نتيجة التحولات العلمية؟ إنه يقصد الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي. فلماذا هذا الحكم الذي تبناه ابن الصلاح؟ وما الأسباب التي دعته إلى هذا القول المثير للجدل؟ ولكي نجيب عن السؤال وتتضح الصورة لا بد من المقارنة بين البنية الفكرية الإسلامية والبنية الفكرية اليونانية :
1- البنية الفكرية الإسلامية ثلاثية ،الله الإنسان العالم. أما البنية اليونانية ثنائية : الإنسان والعالم
2- المنطق الأصولي ثلاثي القيم أما المنطق الأرسطي ثنائي القيم
3 – الروح الإسلامية تقوم على فكرة الإله الواحد أي أن الأمة الإسلامية أمة التوحيد . أما الروح اليونانية لم تعرف فكرة الإله الواحد، وإنما تقول بالتعدد فهي أمة وثنية.
4- الروح الإسلامية تقوم على أساس أن الله خلق العالم من العدم .أما الروح اليونانية فتقول بقدم المادة وليس هناك خالق أوجدها.
5- الروح الإسلامية تفاؤلية أما الروح اليونانية فهي روح تشاؤمية.
6- الروح الإسلامية تقول إن البشر خلقوا من معدن واحد “كلكم لآدم وآدم من تراب”. أما الروح اليونانية ترى أن البشر لم يخلقوا من معدن واحد : أفلطون في كتابه الجمهورية
7 – الروح الإسلامية تعتبر العمل وسيلة لكسب الرزق وتمجده ،في حين أن الروح اليونانية تقدس النظر العقلي وترى أن العمل اليدوي لا يتلائم إلا وطبيعة العبيد : التأمل للسادة والعمل للعبيد والعبد أداة من أدوات المنزل: أرسطو الأخلاق الى نيقوماخ .
8 – الرؤية الإسلامية ترى: أن النساء شقائق الرجال ،اما المرأة عند اليونان ليست حرة بل لا تتصف بصفات الإنسان
9- المنطق اليوناني منطق عق ميتافيزيقي غيبي ،أما المنطق الإسلامي حسي تجريبي
10 – الإسلام يقول بالمساواة والتفاض بالتقوى “ان أكرمكم عند الله أتقاكم”، أما العقلية اليونانية فتقول بالطبقية .
11 – الإسلام يقول بتحرير الإنسان، أما العقلية اليونانية فتقول بالعبوديّة .
12- العقلية اليونانية عقلية ميتافزيقيا غيبيّة وثنيّة، أما العقلية الإسلامية فهي ترفض التفكير الميتافزيقي.
أما المنطق الأرسطي فهو منطق مؤطِّر للعقلية اليونانية التي ذكرت خصائصها ،وهو إلى ذلك منطق ميتافزيقي مرتبط باللغة اليونانية وهو بالإضافة إلى ذلك منطق عقيم لأنه مؤطر بالمقولات العشر ونتائجه متضمنة في مقدماته، ولذلك قال عنه ديكارت إنه منطق يساعد على الجدل ولا يساعد على الاكتشاف. وقد أحدث كل من ديكارت وجاليلي ونيوتن القطيعة المعرفية مع هذا المنطق ولم يتسن للفكر الغربي التقدم إلا بالتخلص منه، فكيف يكون وسيلة تأخر وهدم في الفكر الغربي ووسيلة تقدم في الفكر الإسلامي؟ حتى يكون الذين انتقدوه محل استهزاء واستخفاف من قبل بعض المدعين للعقلانية ؟وقد أخطأ الغزالي رحمه الله ومعه الأشاعرة عموما عندما تبناه ظنا منه أنه وسيلة محايدة كالرياضيات واعتبره رحمه الله شرطا في الاجتهاد كما يقول “لا اجتهاد لمن لم يكن ملما بمنطق أرسطو “وأدخله إلى علوم المسلمين فكانت النتيجة كارثية حيث توقفت علوم المسلمين عن الإبداع والابتكار لأنها كُبلت بمنطق غريب يختلف عن طبيعتها وبذلك وجه الغزالي ضربة قاسية إلى علوم المسلمين من حيث لا يدري.
وهذه الأسباب وغيرها هي التي جعلت ابن الصلاح وغيره ينتقد الفلسفة اليونانية ومنطقها، الأمر الذي حدا بالإمام ابن تيمية وغيره من الأصوليين إلى صياغة منطق متميز يتلائم وبنية التفكير الإسلامي .
إذن الفلسفة اليونانية فلسفة متافزيقية ومنطقها متافزيقي جامد وهي في مجملها تختلف أساساً مع الرؤية الإسلامية وهذا ما قصده بن الصلاح بالنقد ،ولم يقصد الفلسفة على إطلاقها كتفكير منهجي متماسك وكذلك العبارة الشهيرة التي تم ترديدها في القرون الخوالي ” من تمنطق تزندق” فهي تسير في نفس الاتجاه، ولذلك ينبغي توضيح الأمور لكي لا يركب من يريد أن تنحرف البوصلة عن السير في الطريق الصحيح ،ومن هنا عرفنا لماذا ترجمت الفلسفة اليونانية من قبل أمراء بن العباس واستجلب لها مهرة التراجم وكانوا كلهم مسيحيين وليس من بينهم مسلم واحد. وستتخذ غطاء اديولوجيا للدولة لأن مضامنها تتفق مع كثير من توجهاتهم. والغريب أن الأمة الإسلامية كانت في أوج ازدهارها في تلك الفترة التاريخية، فكيف يتأثر الغالب بالمغلوب؟ وتلك حكاية أخرى أشار إليها ابن خلدون.
وفي الأخير هل الدين الإسلامي يتناقض مع التفكير العقلاني العلمي القائم على التأمل في الوجود من أجل استنطاق الطبيعة واستخراج خيراتها لإسعاد الإنسان ؟أم إن التناقض إنما يوجد في مخيلات أصحاب التصورات المغلوطة الذين يقومون بتسويق الأوهام لعلهم يرون ما بقي في عقولهم مما علق بها من أصداء التفكير الغربي قد تحقق.