أخبارمقالات

الناية: العقيدة والحياة


بقلم إبراهيم الناية.
هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا عقيدة؟ وما هي نوعية الأفكار والتصورات التي تعمل على صياغة حياة الإنسان نحو الاستقامة والطهارة أو نحو البؤس والشقاء؟ كل الناس يغدون ويروحون ،ولكن حياتهم تختلف وتنحرف سلوكاتهم بانحراف العقائد والأفكار التي يؤمنون بها ويعتقدونها ولكن صاحب العقيدة السليمة يبقى آمناً مطمئناً، الإبتسامة لا تفارق محياه. فما السر في ذلك؟ إن دور العقيدة في حياة الإنسان دور محوري وأساسي في كل شيء من شؤونه، ولذلك لزم الوقوف عند موضوع العقيدة، لأنه هو الذي يشكل بؤرة الصراع القائم بين المذاهب والاتجاهات والتصورات في الكون كله. وعليه يمكن الإقرار أن هناك إنسانين في هذا العالم لا ثالث لهما. أولهما كما قال أبيقور الفيلسوف اليوناني القديم: إن الآلهة خلقوا العالم ولكن عليهما الا يتدخلوا في شؤون الناس ومن هذه الفكرة تشكلت المذاهب التي تنادي بإبعاد سلطان الخالق عن حياة البشر. وثانهما هناك إنسان آخر: يرى أن الله الذي خلق الإنسان هو الذي له الحق أن ينظم حياة هذا الإنسان لأنه هو الذي يعلم طبيعة ما خلق ويعلم يقينا ما هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه هذا الإنسان ليكون سعيدا في حياته .ومن هذين التصورين ظهرت المشكلة التي تشكل أساس الصراع في حياة الناس والذي يهمنا هو مقاربة الاتجاه الثاني ولذلك نتساءل :
1- ماذا نعنيه بالعقيدة ؟وما علاقتها بالإيمان وبسلوك الناس ؟
2- هل يمكن مواجهة متاعب الحياة ومشكلاتها المتعددة بدون عقيدة؟ 3- ما هي أثار حضور العقيدة في حياة الناس وما هي آثار غيابها في حياتهم؟
4- كيف يمكن أن يكون الإيمان بالله صحيحا دون أن يكون لله القوامة والسلطان على مخلوقاته؟ 5- إذا كنت تؤمن بالله حقيقة فما أثر ذلك الإيمان في واقع حياتك؟ وكيف يمكن أن يكون الله معبودا ولا أثر له على من يعبده ؟
6-ما الفرق بين العبودية لله والعبودية للبشر؟
7- هل يمكن في واقع النفس البشرية أن يؤمن الإنسان بشيء ثم يكون سلوكه الواقعي كله مغايرا لمقتضيات ذلك الإيمان أو مناقضا له؟ بمعنى هل يمكن أن يكون هناك مسلم دون أن يكون ممارسا للدين كما هو الشأن في المسيحية؟
8- وهل الإيمان شيء مستقر بالقلب قائم بذاته ولا علاقة له بالعمل كما يقول أحدهم (أنا مسلم ولكن لا أمارس الدين) وهل يمكن أن يؤدي الإسلام أهدافه التي نزل من أجلها إذا كان المطلوب كله هو التصديق والإقرار؟ وهل ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام هو تطبيق لمقتضيات الإيمان بالله تطوعا من عند أنفسهم غير واجب عليهم؟. وقبل الجواب عن هذه الأسئلة لا بد أن نؤكد :
أولا: إذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية، فإننا نقول إن مشكلة الكثير من الناس هي: أن هناك فريقا يدعي الإسلام ولم يقرأ الثقافة غير إسلامية .فكيف ينتقد شيئًا وهو ليس مُلمًّا به؟ وهل التعامل مع الواقع لا يقتضي العلم به ؟وهناك فريق يدعي الإسلام ولم يقرأ الإسلام فكيف يؤمن بشيء وهو يجهل حقيقته ؟ وإنما قرأ الثقافة الغربية وأصبح يفكر بعقلها ويسقط مفاهمها على الإسلام ومشكلة هذا الفريق أنه لا يستطيع أن يتجاوز مجاله المعرفي التداولي لقلة اطلاعه على ثقافة الآخر لأنه أصبح الآن من الضروري أن يطلع الإنسان على ألوان كثيرة من المعارف ،وإلا أصبح يصنف ضمن خانة الجهال.
ثانياً : وقد نرى شخصاً متديناً يتمظهر بمظاهر التدين ولكن الميزان الذي يزن به الأمور كلها غير إسلامي تعاملاته، ونظرته إلى الحياة، وإلى الكون والإنسان، علاقته الاجتماعية، كلها غير إسلامية بقطع النظر عن طريقته في التفكير وأسلوب خطابه فما قيمة تدينه إذا كان الأمر على ما وصف؟.
ثالثاً: ثم إن الذين انهزموا نفسياً وعقلياً أمام ضغط الحياة المادية المعاصرة ولم يستطيعوا تكوين جيل مسلم راحوا يبحثون عن أحكام شرعية تلائم الواقع الحالي فهل يمكن إنتاج فقه إسلامي يوافق المجتمعات الغربية؟ أي هل ينبغي إخضاع حياتنا للإسلام أم نخضع الإسلام لحياتنا.؟
رابعاً: فالمسلم له تصور خاص عن الكون والحياة والإنسان وصلتها جميعاً بالله الخالق يختلف هذا التصور عن التصورات البشرية وينشأ عن هذا الاختلاف اختلاف في طريقة التفكير وفي منهج الحياة، وفي النظر إلى القيم وفي مختلف الأمور. وعلى هذا الأساس كيف يمكن النظر إلى علاقة العقيدة بالحياة ؟ لكن ماذا نعني بالعقيدة أولاً؟. إن العقيدة هي التي تجعل الإنسان يستحضر رقابة الخالق في كل الأعمال لكي ينجزها على نحو أراده الله، والعقيدة في الإسلام ليست أمراً مستتراً في الضمير غير محدد السمات بل إن العقيدة ممارسة تجلى في السلوك والمعاملات وهي التي تضبط كل شيء في حياة الإنسان وتجعله في وضعه الصحيح ولذلك إن العقيدة الإسلامية تصور كلي شامل للحياة “تشكل الجانب الاعتقادي والجانب التعبدي والجانب السلوك العملي وعليه فحياة الإنسان لا تستقيم حتى يعلم الحق الذي خلقت به السماوات والأرض وحتى تتوافق حياته مع ذلك الحق فلا تنحرف عنه ولا تشذ عن مقتضياته.” وتتجلى العقيدة في أن الله هو الخالق وحده والرازق والمسيطر والمدبر والقيوم وحده وهو المعبود وحده لا يشرك به غيره، ولا توجد العبادة إلا له دون سواه، ومن ثم ان العقيدة هي التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وشرائعه وموازينه وقوانينه، والعقيدة الإسلامية قائمة على التوحيد وهو منهج يتجه بالإنسان والكون كله إلى الله سبحانه. ومن ثم يبقى السؤال مشروعا: لماذا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوحيد؟ ولماذا تأسست الدعوة الإسلامية والرسالة الإسلامية على التوحيد؟ كان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوحد القبائل ويبدأ بحل المشكلة القومية أو الاخلاقية أو يبدأ بالمشكلة الاجتماعية لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالتوحيد (والمشكلة أن العرب كانوا يفهمون دلالة لا إله إلا الله ولذلك رفضوها )ورغم ذلك أصر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أساس العمل هو التوحيد واتسعت مقتضياته لتشمل شؤون الحياة كلها ولكن ما علاقة العقيدة بالإيمان؟.يقوم مقتضى الإيمان بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره والإيمان هو اتصال الكائن الإنساني بالله سبحانه الذي صدر عنه كل الوجود ولذلك إن هذا الإنسان لا يعبد إلا الله وحده ولا يعبد غيره مطلقا ،ولكن الإنسان لا يعبد الله وحده إلا بما أمر به سبحانه لا بما يريد العباد أن يعبدوه. وهو بذلك لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار ،فالمسلم قامته مستقيمة لا تنحني إلا لله ،ولذلك عبادة الله حرية وعبادة البشر عبودية وهذا ما أشار إليه ربعي بن عامر:” نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة” ولذلك إن إيمان المؤمن يمده بالاستعلاء على قيم الأرض والتراب ويوضح له الصلة بين الخالق والمخلوق ولكن أين يتجلى الإيمان؟ وهل الإيمان شيء مستقر في القلب قائم بذاته ولا علاقة له بالعمل؟ صحيح إن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ولكن حقيقة الإيمان تتجسد في قوله تعالى “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين” والشرك هنا شرك الاعتقاد وشرك العبادة وشرك التشريع، ومجمل الإيمان (اتبعوا ما أنزل إليكم وربكم) ومن ثم التصديق والإقرار وحده لا يكفي لإعطاء صفة الإسلام لا في الدنيا وحدها بل في الآخرة كذلك. ولذلك فسعي الإيمان هو تحقيق هدف عملي واقعي في حياة الناس وعليه فليس في الإسلام ما يطلق عليه: المسلم غير الممارس للدين، لأنه كيف يمكن للإنسان أن يعتقد شيئا وسلوكه في واقع الحياة شيئ آخر؟ ولذلك الإيمان يقتضي عملا يتحقق في واقع الأرض بعد التصديق والإقرار وليس كما يقول الفكر المنحرف على لسان المرجئة “لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة” فالسلوك والعمل والممارسة الواقعية في جميع مناحي الحياة تجسد حقيقة الإيمان وليس الإيمان شعار يردده اللسان لأن العقيدة جاءت لتسود الواقع وإذا كان الأمر هكذا فما صلة الإيمان بالعبادة؟ ان ن دعوة الرسل جميعا قائمة على التوحيد فالفطرة مؤسسة على التوحيد ولكن البيئة المنحرفة هي التي تفسد الفطرة فالطفل يولد على الفطرة ولكن التربية هي التي تلعب دورها كما أن الإنسان عابد بفطرته، إما أن يعبد الله وإما أن يعبد شيئا آخر.لكن من المعبود ومن تجوز له العبادة والطاعة والإنصياع؟ ومن خلال الجواب عن هذا السؤال يتحدد سلوك الإنسان وفعله في الأرض، فاعتقاد الإنسان وتصوراته وسلوكه وعلاقته بربه وبمجتمعه وكل حركاته وأفعاله بل يتحدد مصيره في الآخرة إما إلى الجنة أو إلى النار فمقتضيات العقيدة تعددت لتشمل كل جوانب الحياة، فالعقيدة منهاج للحياة لتسير عليه البشرية ولذلك قال الشاطبي رحمه الله : “مقصد الشرع إخراج العبد من داعية هواه ليكون عبدا لله اختيارا كما كان عبدا لله اضطرارا “ولذلك إن مفهوم العبادة ليست هي الشعائر التعبدية بل كل ما فيه مرضاة الله من أفعال سياسية أو اقتصادية وغيرها عبادة إذا كانت تسير وفق منهج الله قائمة على الإخلاص، فقد يصلي المرء ولكن هل فيه صفات المصلين؟ ولذلك لا بد أن تتجسد العبادة من خلال سلوك يعيشه الإنسان ومن ثم إن ن العقيدة تتجلى في العبادة والأخلاق وفي كل حركة سير الإنسان لأن الإنسان كائن أخلاقي بطبعه فهو كائن مزدوج له طريقان لا طريق واحد كالحيوان ،وقد أعطي الإنسان القدرة على اختيار أحدهما وكل تصرف للإنسان هو اختيار بين طريق التقوى وطريق الفجور. ولذلك فالأخلاق في المنهج التربوي الإسلامي شاملة لكل جوانب الحياة تتجسد فيما يقوم به الإنسان من عمل انسجاما مع قوله تعالى ” قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين” فعندما يصبح الإنسان قادرا على مواجهة كل الصعاب والأحداث بقوة فتلك هي وظيفة العقيدة التي تمنح الفرد الضعيف ذلك العون والسند وبذلك تصغر في عينه كل الصعاب والمثبطات وتزوده العقيدة بقدرة المواجهة والتصدي لكل مشكلات الحياة، فالإنسان يعيش في واقع الحياة ولكن هذه الحياة لا تستقيم إلا بالعقيدة لأنها هي الضمانة الوحيدة لكي لا ينزلق الإنسان نحو الهاوية .
ولذلك لزم التساؤل: أين وصلت البشرية بعد أن ابتعدت عن الدين ولم تتقيد بعقيدة ثابتة بل نادت بالتطور في الأخلاق والآداب والأفكار والتقاليد؟ أي ما أثر حضور العقيدة في حياة الناس وما أثر غيابها في حياتهم؟ بمعنى ما هي النتائج المترتبة عن غياب العقيدة في حياة الناس؟. إِنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ قَالَ ” وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى “ولذلك نرى أن غياب العقيدة في السلوك البشري حتى وإن كان من أشد الناس ثراءً فنلحظ النفاق والكذب وعدم الاستقامة وعدم القيام بالواجب وعدم الإخلاص في العمل والتشهير والبهتان وكل الأعمال التي تتنافى مع السلوك الإنساني، وعندما تغيب العقيدة في المجتمعات نلاحظ الثراء الفاحش إلى جانب الفقر المذق،ع كما نشاهد الإنحلال الأخلاقي الذي يهدف إلى تدمير الحياة لأن الإنحلال الأخلاقي هو الطريق المؤدي إلى خراب الأمم وزوالها، كما تفشت ظاهرة الانتحار المخيفة الناتجة عن عوامل عدة منها القلق والاضطراب والتمزق النفسي، كما أصبح قتل البشر وسفك الدماء وكأنه حالة عادية لا تستلزم هز المشاعر وتأنيب الضمير لأن البشرية فقدت رقابة الخالق. وفي المقابل فإن صاحب العقيدة يتمتع بالهدوء النفسي وبالإطمئنان القلبي، فليست هناك أسئلة تحيره أو تقض مضجعه لأنه يعلم يقينا أن الله وحده هو خالق الكون كله وإليه يعود كل شيء، وأن هذه الحياة فانية والجزاء ليس في هذه الدنيا ومن ثم استقامت حياة صاحب العقيدة لأنه آمن باليوم الآخر وعرف أن سلوكاته وتصرفاته ستعرض أمام محكمة رب العالمين يوم تبلى السرائر وينكشف القطاع عن المستور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى