بقلم: النعمة ماءالعينين
على مضمار الشيخ زايد بإقليم الطنطان، الأول من نوعه على مستوى القارة الأفريقية، وقف محمد الأطرش، الفتى ذو الاثني عشر عامًا، يتأمل مشهد السباق بنظرة تحمل مزيجًا من الحماسة والقلق. كان هذا اليوم مختلفًا، فقد استبدلت ناقته الوفية "لبيظة"، التي صنعت أمجادًا معه، بمنافسة جديدة يحركها روبوت بارد لا يعرف حرارة الصحراء ولا صداقة الإبل.
سباقات الإبل، التي تعرف عند أهل الصحراء بـ"لز الإبل"، ليست مجرد رياضة أو منافسة، بل هي شريان ثقافي يمتد عميقًا في تاريخ اهل البداوة وتجسد مدى التقارب في المورث الثقافي والتراثي بين المملكة المغربية ودولة الإمارات، وتعكس سباقات الإبل/الهجن التمهيدية سنويا في إقليم طانطان ، الجهود المشتركة بين البلدين، للحفاظ على التقاليد الأصيلة، وصون الموروث المشترك، بهدف دعم الموروث الثقافي للبدو الرحل، وقد كانت جزءا أصيلا من فصول موسم الشيخ محمد الاغظف، الذي يُعرف اليوم بموسم طانطان. هذا الموسم الذي أعاد الروح لموروث الصحراء، حيث تتبارى اليوم الإبل والخيل، ليس فقط للفوز، بل لإحياء عراقة موروث يعكس قوة الأجداد وغنى الثقافة الحسانية.
لكن اليوم، كان الوضع مختلفًا. "لبيظة" شاركت في شوط الروبوت، تجربة حديثة لا تحمل حرارة اليد التي اعتادت عليها. تحركت الإبل بتثاقل، فاقدة حس القيادة الإنسانية الذي كان يرشدها دومًا إلى الفوز. انتهى الشوط، وعادت "لبيظة" منهكة، وكأنها تحمل خيبة تجربة جديدة وغريبة عنها.
محمد، الذي اعتاد أن يرى ناقته منتصرة، وقف على المضمار بعيون تحمل حزناً عميقاً ودرساً جديداً. لم تدم لحظات التأمل طويلاً. اقترب منه والده، مرشده ورفيقه في عالم الإبل، وقال له: "السباق ليس فقط ما يحدث على المضمار. "الجدع" الجمل الذي ستقوده اليوم، يحتاج إلى من يمنحه فرصة. مثلما أعاد موسم طانطان الروح إلى هذه السباقات، يمكنك أنت أن تعيد الروح إلى هذا الجمل"
"الجدع"، الجمل الذي عانى من إخفاقات متتالية، بدا وكأنه يحمل عبئًا من الخوف وعدم الثقة. بيديه الصغيرتين، بدأ محمد يجهز "الراحلة"، وعيناه تراقبان الجمل بتفاؤل حذر. لقد فهم كلمات والده، وأدرك أن هذا السباق لم يكن اختباراً للجمل وحده، بل لعزيمة روح تراكمت فيها دروس الأب والأجداد.
عندما انطلق الشوط، بدت الخطوات الأولى ثقيلة، وكأن "الجدع" يجرّ خلفه خيبات الماضي. لكن محمد لم يستسلم، بل واصل توجيه الجمل بصوت مفعم بالثقة. بدأ الجمل يتجاوب، وكأن روحه تجد في كلمات الصبي أمانًا افتقده. كانت تلك اللحظات أشبه بتلاحم خفي بين إنسان وحيوان، تضافرت فيه الإرادة مع الإحساس.
مع اقتراب خط النهاية، تحولت خطوات البعير "الجدع" إلى وثبات ناقة قلوس، تلتهم الكيلومترات كما لو كانت امتارا تُطوى في غمضة عين.
عبرا معًا أولاً، وسط دهشة الحاضرين وتصفيقهم. كان هذا الانتصار أكثر من فوز في سباق؛ كان رسالة تُعيد رسم ملامح الارث الحساني الذي يجمع بين أصالة الماضي وروح التجديد.
بعد انتهاء السباق، اقترب محمد من والده، الذي كانت ملامح الفخر واضحة على وجهه. وضع الأب يده على كتف ابنه وقال: "ما فعلت أعاد الحياة لتراثنا. لقد أثبتتَ أن موروثنا ليس فقط ذاكرة، بل عزيمة تسير نحو المستقبل."
توجه محمد نحو "لبيظة"، التي كانت تراقب المشهد من بعيد، وربت على ظهرها بلطف، وكأن يده تقول لها: "ما بيننا سيظل دائمًا نابضًا بالحياة."
لقد أدرك محمد أن "لز الإبل" ليس مجرد سباق، بل هو رمز حي لإرث الأجداد. إنه حكاية تُكتب في كل مضمار، بين روح السلف التي تنبض في الماضي، وعزيمة الخلف التي تصوغ المستقبل، تمامًا كما كانت الطانطان قديما شاهدًا على سباقات للإبل لا تنسى..