بقلم. ابراهيم الناية.
يبدو السؤال مستهلكا: أيهما يتأسس على الاخر ؟هل السياسة هي التي تتأسس على الثقافة ؟ ام أن الثقافة هي التي تتأسس على السياسة؟ وماذا نعني بالسياسة؟ هل السياسة فكر واخلاق وقيم؟ تتأسس عليها مشاريع اقتصادية وثقافية وانظمة حكم؟ ام ان السياسة الاعيب واساليب مخادعة لا تتقيد باخلاق وقيم متخذة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة؟. وما الفرق بين السياسة والعهر السياسي؟ وهل تتعدد السياسات بتعدد المذاهب الفكرية؟ ام إن الامر لا يعدو ان يكون اهواء وانفعالات تستند على منطق القوة اي القوي يأكل الضعيف.؟
ثم أية انظمة معرفية تأسست عليها سياسات الغرب الاستعماري؟. اي ما هو الأساس الفكري والايديولوجي الذي أطر سياسات الغرب؟. وأية ثقافة تعطي المناعة للسياسة لكي لا تصبح عهرا سياسيا.؟
يبدو ان الجواب المقنع ان السياسة هي التي تتأسس على المعرفة لأن السياسة مشاريع اقتصادية وثقافية وهي امور تقتضي ان تبنى على نظام معرفي متكامل الحلقات منسجم الابعاد ،وان كل خروج عن هذه القاعدة يوقعنا في السقوط في المتاهات ، ولم يعد الامر يقوم على السياسة وانما على العهر السياسي الذي لا يؤطر بقيم ولا باخلاق لها رؤية علمية ومنطقية.
ومن نافلة القول إن مجتمعاتنا تعج بالتيارات الفكرية المتناقضة، ولكل رؤية تصورها في تحليل الواقع وقيادته، فهناك من يعود الى النظام الغربي ويعتبره النموذج المثال الذي يتعين الاقتداء به وهناك الطرح الذي ينبعث من ذاتية الامة وكينونتها ويعتبر التمسك به هو المنقذ من الضلال. وهكذا إن انظمة الحكم اما ان تكون قائمة على الفلسفات المادية التي ترى ان الحق فيما هو واقع ،كما تدعي الفلسفة الوضعية او مبني على المصالح والانتفاع كما تدعي الفلسفة البرجماتية، واما ان تكون انظمة قائمة على العلم والايمان والاعتراف بانسانية الانسان وكرامته كما هو الشأن في النظام السياسي الاسلامي الذي يبنى اساسا على المعرفة الاسلامية. وليس على الاهواء البشرية وتصورات الانسان. "ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا". جزء من الآية 28 من سورة الكهف.
ولتقريب المسألة فقد يزور احد مواطن مجتمعاتنا بلاد اوروبا وقد يسره نظام السير ومدى الانضباط في العمل وحسن الاستقبال (على الاقل في الظاهر) ثم يصب جام غضبه على مجتمعاتنا لمدى التسيب الذي تعيشه ومدى تفشي عقلية الزبونية والمحسوبية والرشوة وغير ذلك. فاين المشكل؟. هل الانسان الاوروبي اذكى من الانسان الذي يعيش جنوب البحر المتوسط؟ إن الذي لم يتفطن اليه هذا المنتمي الى البلاد المتخلفة أن التربية في الغرب قائمة على تربية المواطن الصالح وليس الانسان الصالح ،والا كيف نفسر ان الغرب وبعدما قامت فيه من نهضة وثورات يتحول الى قوة استعمارية قائمة على سفك دماء البشر واستغلال خيرات الشعوب الضعيفة. ولذلك أقام الغرب سياساته على بلورة مشروع يتجسد في نظام تربوي يسوده الانضباط في العمل والاستماتة في الاداء من اجل تحقيق مصالحه المادية، فقد ينضبط الاوروبي داخل مجتمعه باعتباره مواطنا صالحا. ولكن عندما يجتاز حدود بلاده يتحول الى ما لم يكن في الحسبان. كما نجد ذلك في مختلف الحركات الإستعمارية. فالفكر الغربي فكر استعماري قائم على التفوق على الاخر ولذلك كل سياسات الغرب ليست قائمة على الاخلاق، وانما على المصالح فما ينادون به من حقوق وديمقراطية هي امور تتعلق بحياتهم دون غيرهم من الشعوب.
اذا إن السياسة في الغرب لا ترتبط بالقيم الاخلاقية والانسانية وانما تتبنى اساليب الاحتيال والنفاق وخصوصا في تعاملها مع الاخر المخالف لها في المعتقدات والرؤى ولكن المشكلة في نخب مجتمعاتنا عندما تتبنى الوجه الكالح من التصورات الغربية، وهكذا نرى كيف ترهلت وتهافت خطابها لانها خرجت عن السياق الذي يعطي المصداقية لكثير من الممارسات ،فقد تراجعت عن المبادئ التي رفعتها في ظرفية تاريخية معينة لانها لم تكن مهيئة معرفيا بل استسهلت كثيرا من الامور التي هي في واقع الأمر كثيرة الصعوبة. فكانت النتيجة التآكل والذوبان والتلاشي. والواقع انها لو قرأت التاريخ وكانت لها عين فاحصة لمعطيات الواقع لعرفت كيف تتعامل دون الوقوع في السقوط ، لان المنطق يقتضي ان نعرف كيف نستفيد من تجارب الاخرين دون ان نعيشها معاناة.؟
ولذلك إن مسألة المعرفة والاطلاع ضرورية لمن اراد ان يغير الواقع ويصلح المجتمع، وهكذا نرى بعض التوجهات اتخذت المواقف دون ان تحتسب النتائج. فقد تم "استدراج البعض للمشاركة في الحكم لرسم السياسات العامة. ويشترك في حمل الاوزار لكي لا يبقى نظيفا." وهي مسألة كان ينبغي التفكير في نتائجها قبل الاقدام عليها. وفي الرؤية الاسلامية يلزم الانسجام بين المعتقدات التي يحملها المسلم وبين ممارساته العملية. واذا حصل التناقض فيصبح الامر خارج سياق الرؤية وندخل في إطار المتاهة والذوبان.
ولذلك ان الانسان المسلم ينبغي ان يكون واقفا على ارضية معرفية صلبة. ولا ينطلق من الجهل بحقائق الامور. او من الخطاب الانفعالي لأن الواقع معقد ومتشعب وتسوده قناعات وحمولات فكرية لها جذورها واهدافها المختلفة، وهذا يعني ان المسلم قد تعترضه صعوبات كثيرة. فالامر ليس هينا ولا نزهة ،وهذا يقتضي ان يكون المسلم مسلحا بالعلم والمعرفة وذا أخلاق وحنكة وتجربة وإلا قد يتسرب اليه اليأس والقنوط لطول المسافة سيما انه يرى البعض يستعجل ادراك النتائج وقطف الثمار ليتحول الامر بعد ذلك الى نوع من التراجع والسقوط في الطريق خاصة ان المغريات كثيرة من جاه وسلطة ومال.
وفي اطار الدعوة الاسلامية يعتبر السلوك مبدءا مفصليا ولا ينبغي التفريق بين القول والفعل. ولذلك شاع بين الدعاة الاسلاميين انه ينبغي ان ندعو الناس بسلوكنا ومعاملاتنا وليس باقوالنا فقط. ومع ذلك ان التواصل مع فئات المجتمع يقتضي الإحاطة المعرفية بالتصورات والآراء التي تسود المجتمع. لأن السياسة في المنظومة الإسلامية قائمة على العلم بالأحكام الشرعية التي تؤطر المجتمع. وبالأخلاق والإستقامة، وليست قائمة على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فالانسان المسلم لا يمكن ان يتنازل عن مبادئه مهما كلفه ذلك من ثمن. ولا ينبغي ان يبحث عن المبررات التي تجعله خارج اطار الاسلام. ولذلك ان الثقافة الاسلامية هي التي تعطي المناعة للسياسة. لكي لا تصبح عهرا سياسيا ، ورغم ذلك فهناك الحديث في الفقه عن الرخصة والعزيمة فأيهما تختار ؟.
ان الاسلام هو الذي يعطي للامة قوتها وتماسكها واستمراريتها. فعندما تتخلى عنه فسيسودها الجهل وتتكالب عليها قوى الشر. لانه هو المناعة الوحيدة التي تجعل الامة تستمر في سيرها وتقف في وجه اعدائها ، لكن العنصريين المتعصبين للعرق الذين يريدون اقصاء الاسلام عن حياة المجتمع لتنخرط الامة بعد ذلك في مشروع الفتنة والعودة الى حياة الجاهلية ، وهم بهذه الدعوة يتخندقون مع الصهيونية واتخذوها قدوة ولم يعلموا ان الصهيونية نتاج غربي خالص قائمة على اقصاء الاخر ونعته بابشع الاوصاف. اقلها بشاعة ان يكون عبدا لشعب الله المختار، ولذلك نجد عند هؤلاء العنصريين نفس التوجه. ولذلك يتميزون بالاستعلاء والتكبر وينظرون الى الآخر بعين النقص والدونية. ويرون أن البلاد حكر عليهم ، وعلى غيرهم الرحيل لانهم كانوا لاجئين فقط. بخلاف الاسلام الذي تقوم نظرته على الشمول ولا تستثني احدا مهما كان لونه او عرقه وتتأسس هذه النظرة على العلم والمعرفة وعلى الاخلاق والمعاملة بالحسنى فهي تنظر الى كل انسان بنظرة الخيرية ولا تصدر عليه احكاما مسبقة ما لم يثبت العكس .
ويترهل الخطاب السياسي ويسقط عندما يصبح مناكفات أقرب الى السب والشتم منه الى الحديث عن المشاريع الاقتصادية والفكرية. فنجد الممارسين للعهر السياسي يقدمون انفسهم على انهم البديل الاوحد. ويؤسسون ما يريدون قوله على نقد مشاريع الاخرين. بدل بناء رؤيتهم على منظومة علمية متماسكة تجعل الناس ينظرون اليها بعين الرضى ولذلك عم الجهل وتهافت الخطاب وتدنى ، ويبلغ العهر السياسي مداه عندما يصبح الذي يعتقد انه يمارس السياسة يطعن في معتقدات الاخرين ولا يحترم مشاعرهم وكينونتهم ،ولكن لا غرابة ففي المجتمعات الفاشلة يتصدر المشهد التافهون ويقدمون الترهات والاضاليل على انها افكار وتصورات حداثية.